رواية رحلة آثام بقلم منال سالم
رقبتها فأخفت عنقها البارز بالإيشارب المزركش الذي تلقته كهدية بالأمس القريب تأكدت من جعل العقدة عند جانب عنقها الأيمن ثم مسدت بيدها على جانبي التنورة لتفرد قماشها فيصل إلى ركبتيها اعتدلت بعدئذ واقفة ومشطت شعرها قبل أن تعقصه في كعكة مشدودة. مرة أخرى ألقت نظرة متأملة لهيئتها النهائية في تسريحة المرآة لتمسك بأحمر الشفاه وتضيف مسحة رقيقة على ثغرها لم تنس كذلك إفراطها في نثر العطر الأنثوي على كامل ثيابها لتتحرك بعدها تجاه الفراش جلست على طرفه وانحنت واضعة الحذاء الجديد في قدميها أغمضت عينيها للحظة لتتنعم بإحساس الراحة وهو يغلف كيانها.
كما عهدته وجدته يرتدي حلته الرسمية ذات اللون الرمادي ومن فوقها هذا المعطف الأسود الثقيل. هزت رأسها بإيماءة صغيرة وردت في إيجاز
صباح النور.
باقتضابها المتعمد في الحديث أرادت إشعاره بالذنب وبإثبات اختلافها عن الأخريات اللاتي قد يبدين ردة فعل مناقضة لها أو حتى متساهلة لعلها تنجح في التأثير عليه بشكل غير مباشر حين يجدها تعامله بجفاء ورسمية فلا يظن أن ما حدث يمكن تكراره ببساطة ودون ردة فعل رافضة. كان يضع يده في جيب بنطاله وهو يخاطبها برنة هدوء مسيطرة على صوته
تأهبت حواسها لما أبداه من اعتذار مفاجئ لم تضع في الحسبان أن يظهر ندمه بهذا الشكل السريع فقد ظنت أنه سيتغاضى عما حدث ويواريه بالحديث عن أشياء أخرى جانبية. نظرت له بعينين مدهوشتين وهو يسترسل بتعابير منزعجة وبنبرة نادمة ومؤكدة
للأسف أنا عديت حدود الأدب معاكي وده شيء مضايقني جدا ومخليني مش راضي عن نفسي نهائي.
إنتي إنسانة غالية عاملة زي الياقوت النادر صعب الواحد مايتأثرش بيكي.
سقط القناع الواهي الذي اختبأت خلفه وطفا على وجهها التخبط والارتباك امتدت يده لتمسك بكفها رفعه إلى فمه ليطبع قبلة صغيرة عليه ثم نظر إليها وهو محڼي قليلا ليردد مرة ثانية وهو يرسم هذه الابتسامة الصغيرة الماكرة
أرخى أصابعه عن كفها فاستعادته وقالت بتلبك حرج
ولا يهمك.
تنحى للجانب وأشار بيده نحو المخرج قائلا بتهذيب أشعرها بالأهمية
اتفضلي يا دكتورة العربية منتظرانا.
تنحنحت في صوت خفيض قبل أن ترد وهي تسير بتمهل
شكرا.
طلب منها في صوت هادئ لا يخلو من الجدية الآمة عندما اقترب من الواجهة الزجاجية لاستقبال الفندق
فيا ريت تلبسي البالطو بتاعك.
تذكرت أنها وضعته على ذراعها فأومأت برأسها قائلة وهي تهم بارتدائه
حاضر.
تغلغل فيها هذا الشعور المنعش بالسعادة والارتياح فإن كانت محاولة واحدة عادية لصده استحثته على إبداء الندم الفوري فماذا إن تمنعت قليلا عليه!
استقرت في المقعد الخلفي إلى جواره في نفس السيارة التي نقلتهما بالأمس إلى مكان المؤتمر لكن هذه المرة كان منهمكا في مطالعة الكثير من الأوراق والملفات للدرجة التي جعلته يلتزم الصمت طوال الطريق مما أشعرها بشيء من الضيق لتجاهله لها فقد ظنت أنه سيحاول التودد إليها بأسلوب وديع ومهذب لكسب رضائها ومع ذلك صدمها بردة الفعل المتحفظة تلك وكأنه غريب كليا عنها كان مستغرقا في عمله للحد الذي أصابها بالتحير مما دفعها لإعادة التفكير فيما قررته قبل وقت سابق فقد لا يصلح ذلك التكتيك معه. نفخت بصوت شبه مسموع له دون أن تدري فرفع رأسه عن الأوراق وقال باسما
أنا أسف إني مشغول عنك...
عادي مش مشكلة.
اقترح عليها وهو يمد يده بواحدة من الملفات
تحبي تبصي عليهم معايا
ترددت للحظة لكنها لم ترفض عرضه وقالت بابتسامة اتسعت قليلا
لو مش هيضايقك!
أصر عليها بحبور
بالعكس.. اتفضلي.
تناولت الملف منه وراحت تطالعه بعينين فضوليتين شتت نظراتها عن قراءة الأسطر الأولى عندما خاطبها
لو في حاجة مش واضحة قوليلي وأنا أشرحهالك.
عادت دفقة من النشاط تنتشر في أوصالها وهي ترد بحماس
ماشي.
استغلت المسافة المتبقية في ادعاء محاولتها الاستفهام عن بعض النقاط غير المفهومة ليظل الحديث ممتدا وموصولا بينهما لآخر وقت إلى أن تباطأت سرعة السيارة واحتل الفندق الفضاء المجاور لنافذتها فأشار بإصبعه تجاهه متكلما
احنا تقريبا وصلنا.
استدارت برأسها لتنظر إلى حيث أشار وقالت وهي تلملم الأوراق المتبعثرة معا
تمام.
لن تنكر أن ما أمضته من لحظات معدودة وهي تشاركه الرأي وتتناقش معه باستخدام العقل والحجة والمنطق جعلها تزداد رغبة ورجاء في تعميق صلتها به فتتجاوز حدود المهنية لتصل إلى ما هو أكثر من ذلك تأرجحت مشاعرها ما بين اللهفة والتمني فتنهدت مليا وهي تستعد للنزول وجدته في انتظارها يبتسم بعناية وجدية لم يمد ذراعه لتتأبط فيه كما تخيلت لهنيهة بل أشار لها لتسير إلى جواره وكأنه عاد لوضع هذا الحاجز الوهمي الفاصل بينهما.
لم يجلسا على نفس المائدة السابقة المخصصة لهما في المنتصف بل انتقل كلاهما للجلوس في المقدمة على مسافة قريبة من المنصة الرئيسية وهذا ما استغربته تهاني فقد توقعت ألا يكونا محط الأنظار لكن ربما يكون هناك ما لا تعلمه دفعت المقعد للأمام بعدما سحبه لها مهاب لتجلس عليه في تصرف مهذب معتاد منه. ابتسمت تشكره وأخذت تطوف ببصرها على الحاضرين كان التواجد كثيفا عن يوم الأمس توقفت عن تأمل ما حولها عندما انتبهت للصوت الأنثوي المألوف وهو يتساءل
عزيزي مهاب كيف حالك اليوم
زرت عينيها في ضيق محسوس وقد رأت ديبرا تقف أمام مهاب بقوامها الممشوق وثوبها الأخضر الفاتن الذي يبرز أكثر مما يواري لا إراديا تحسست معطفها الأسود الذي يغطي على ما بذلته من جهد لتلفت أنظاره أصابتها موجة قوية من اليأس والإحباط وهي تراه يقف لتحيتها قائلا بشيء من الجدية
أنا بخير سيدة ديبرا!
اندهشت ديبرا مثلما استغربت تهاني لهذه المعاملة الرسمية وقررت بصوت شبه هازئ
سيدة!
أكد على مقصد كلامه المفهوم بإيماءة واضحة من رأسه وللغرابة أكثر لم يمد يده لمصافحته أو حتى تقبيلها في وجنتها كما فعل في المرة الأولى بدا جافا للغاية صلفا وغير متهاون الحميمية التي كان عليها بالأمس تلاشت كليا وكأنها لم تكن من الأساس. ارتسمت
علامات الاستياء على وجه ديبرا وراحت تعاتبه بصوت مزعوج
لما هذه الرسمية في التعامل معي ألم نكن بالأمس آ...
قاطعها رافعا يده أمام وجهها
اعتذر منك...
ثم حول ناظريه تجاه تهاني وتابع متعمدا
صديقتي المقربة منزعجة من وجودك.
في التو تلاحقت دقات قلب الأخيرة في صدمة جلية مما فاه به ظلت تحملق فيه بعينين متسعتين لا تصدق ما سمعته أفاقت من دهشتها العظيمة على نبرة ديبرا المستنكرة وهي تتساءل في استهجان بائن
أهذه صديقتك
ألصق بثغره هذه الابتسامة الساحرة والمنمقة وهو يؤكد لها دون أن يبعد نظراته الدافئة عن تهاني
نعم.
تحرجت ديبرا من وجودها غير المرغوب فيه واستأذن بالذهاب وأمارات الخيبة تظهر على تقاسيمها
اسمح لي فرصة طيبة عزيزتي.
لم تخبت الدهشة من على وجه تهاني رغم انصراف هذه المرأة وظل نظرها معلقا ب مهاب وهو يخاطبها مبديا اعتذاره وقد عاد إلى الجلوس
أنا أسف إني اضطريت أقول الكلام ده بس مكونتش هخلص بصراحة منها.
شعرت وكأنها لا تجد المناسب من الكلام لتعبر به عن رأيها فيما قال فالمفاجأة ما زالت مسيطرة عليها لكنه تابع موضحا لها
يعني أنا مش بحب النوع ده من فرض العلاقات هي مش قادرة تفهم إننا مجرد زملاء عاوزة الموضوع يتخطى ده بكتير.
تطلعت إليه بمزيد من التحير والاندهاش فواصل تعقيبه
جايز الحياة هنا مفتوحة وكل حاجة متاحة بس أنا برضوه راجل شرقي وعندي ثوابت.
استندت برأسها على راحة يدها ولم ترف بطرفيها فرأى هذه النظرة الحائرة التي تملأ عينيها لذا سألها مبتسما في لطافة
بتبصيلي كده ليه
تداركت ما كانت عليه من تحديق غريب وقالت بتلبك خفيف وهي تعتدل في جلستها
بصراحة اللي يشوفك إمبارح مايشوفكش النهاردة.
قال بشيء من الضيق
اللي حصل كان لحظة طيش وأنا ندمان عليها جدا.
كانت على وشك التعليق لكنه انتفض واقفا ليخبرها وهو يشير برأسه تجاه المنصة
أنا عندي مناقشة فوق هستأذنك.
مرة أخرى تفاجأت به يعتلي المنصة كأحد محاضري اليوم فافتر ثغرها عن ذهول تركها على حالتها تلك وهو متأكد أن نظراتها ستظل باقية عليه ولن تفارقه لمدة طويلة. شعرت تهاني بدفقة جديدة من الحماس المتقد تنعش وجدانها فرددت مع نفسها في غير تصديق وقد أشرقت ملامحها وبرقت نظراتها سرورا
للدرجادي أنا أثرت فيه
تساءلت في صدر شبه ناهج وهي تضع يدها على الإيشارب المطوق لعنقها لتلمسه في ترفق
بقى عاوز يتغير عشاني!
سرعان ما أسرتها طريقته المرتبة والمحكمة في فرض سيطرته على الآخرين خاصة حينما احتدم الجدال بشأن نقطة معينة كان ثابتا راسخا كالجبل لم يتوتر ولم يبد قلقا بل على العكس استطاع أن يظهر قدرته على إقناع الحاضرين بصحة رأيه فاستحوذ ببراعة على إعجابهم قبل اهتمامهم. انتشت تهاني وهي تصغي إلى مهاب وهو يدلي بدلوه في كل شيء وكأنه القائد المتزعم سرحت في تأمله وشردت مع نبرته في بعد مواز حتى بدت غير مهتمة سوى بما يفعله فقط كم دارت في رأسها الخيالات الوردية بشأن مستقبل باهر يجمعها به فقط إن تطورت علاقتهما إلى ما هو أعمق! تنبهت من دوامة تحليقها الخيالي عندما ألقى كلمته الختامية فطرحت عن رأسها هذه الأفكار الواهمة ونهضت من مقعدها لتتجه إلى المنصة حيث يقف وسط مجموعة من الأطباء يتشاور معهم في بعض الجزئيات. سمعت أحدهم يثني عليه من بين ضحكاته
نحن محظوظون بك دكتور مهاب لقد كان النقاش غنيا وممتعا للغاية.
قال وقد اتسعت بسمته
أشكرك سيدي.
مد آخر يده لمصافحته وهو يوصيه
نرجو ألا تحرمنا من هذه المحاضرات مجددا.
أخبره مؤكدا بثقة يشوبها لمحة من الغرور
لا تقلق ستجدني في كل محفل طبي.
ارتبكت
وتشعب في بشرتها حمرة خفيفة عندما تحولت كافة الأنظار إليها فجأة عندما خاطبها أحد الواقفين بنبرة مهتمة
وأنت كذلك دكتورة نتمنى رؤيتك مرة أخرى.
عندئذ تحرك مهاب ليقف مجاورا لها وليضعها كذلك في المقدمة لتتمكن من الحديث إليهم فابتسمت في خجل وردت وهي تنتقل بناظريها إليه لتحدق فيه وحده
بالتأكيد.
تكلم