الأحد 01 ديسمبر 2024

رواية رحلة آثام بقلم منال سالم

انت في الصفحة 16 من 80 صفحات

موقع أيام نيوز

 


مجددا ذلك الطبيب وهو يوزع نظراته بين الاثنين ومشيرا بسبابته
لنتقابل في تجمع الغد سأنتظركما.
وقتئذ رد عليه مهاب بهدوء
حسنا.
مرت عدة دقائق إلى أن خف الحشد وانشغل المعظم عنهما حينئذ انفردت تهاني به وسألته بفضول ممزوج بالحيرة
هو في إيه بكرة
أجابها وهو يشير لها بيده لتتحرك بعيدا عن الصخب
عاملين زي جولة في البلد بحيث الضيوف يشوفوا أهم معالمها!

نبرته أوحت لها بعدم اكتراثه فتفرست في وجهه مليا وهي تستطرد متسائلة لتتأكد مما تشك فيه
شكلك بيقول إنك مش حابب تخرج
جاء رده مائعا وموجزا في نفس الآن
يعني.
تعجبت من ذلك وسألته
في سبب معين
هز رأسه بالإيجاب دون أن يفوه بشيء وكأنه يقصد بهذا استثارة نزعة الحيرة بداخلها وحدث ما رتب له فازداد الفضول بداخلها ولم تمانع من الإفصاح عما تريد الوصول إليه لذا تساءلت برقة وتهذيب وقد أصبحا كلاهما خارج قاعة المؤتمر
ممكن أعرف إيه هو
اتخذت ملامحه طابعا جديا غريبا وتوقف عن السير ليوضح لها بمكر مدروس
بعيد إني مش عاوز أشوف ديبرا بس ممكن تلاقي بعض الحاجات اللي ماتعجبكيش وأنا مش حابب ده.
لحظتها أحست بالنشوة والابتهاج لتجنبه فعل ما يزعجها بأي طريقة وكأن لها تأثير ساحر يعجز إلى حد ما عن مقاومته تمسكت بهذا الاعتقاد. لاحت ابتسامة ناعمة على محياها وهي تخبره
طالما إنت مش هتروح فأنا زيك.
أومأ برأسه ليكملا سيرهما فتحركت معه وهزت كتفيه متابعة كلامها
أنا أصلا ماليش في الجو ده.
مشى إلى جوارها قائلا بصوته الهادئ
أنا عارف...
حين التفتت تنظر إليه أكمل بنبرة موحية في التو تسربت إلى النابض بين ضلوعها فراح يخفق بقوة 
وحابب تفضلي كده.
تسترت وراء قناع الابتسام الخجل لتخفي هذه اللهفة الفرحة المتفشية فيها لو لم تكن قد سمعت ما قاله لظنت أنها في حلم جميل ستفيق منه بعد حين لكنها يقظة وما يردده واقع ملموس يكاد يتحقق إن استمر على هذا المنوال.
لم يكن من هواة الجلوس على المقاهي الشعبية لكن شقيقه أرسل إليه ليأتي إليه في ذاك المكان الرابض بالقرب من محل عمله. انتظره عوض في تبرم متذمر فلم يرغب في إضاعة الوقت سدى دون أن ينهي ما هو مكلف به من أعمال. هب واقفا من موضع جلوسه عندما لمح بدري قادما من مسافة قريبة اتجه ناحيته وهو منزعج بدرجة كبيرة لتأخره ناداه ملوحا بيده ومع ذلك لم يرد ظل منشغلا بالتحديق في مغلف أصفر اللون ممسك به بيده. لم يره واستمر ملهيا مع نفسه بلغه فسمعه يردد بما يشبه التهليل رغم خفوت صوته وكأن برأسه حوارا لا ينقطع
يا فرج الله أنا مش مصدق.
استوقفه بالإمساك به من ذراعه وصاح به وهو يهزه قليلا
في إيه يا بدري جايبني ومعطلني من الصبح ليه
نقل شقيقه الأصغر نظره إليه وردد في تلهف آخذ في التضاعف وابتسامة عريضة تكاد تصل لأذنيه تبرز على ملامحه
افرح ياخويا أنا الحمدلله استلمت تأشيرة السفر للعراق فحلفت لتكون أول واحد تعرف.
فاجأه بذاك الأمر الذي انتواه سابقا ومضى عليه وقت ليس بقليل حتى ظنوا جميعا أنه لن يحدث حدق فيه مدهوشا للحظات ثم قطب جبينه وسأله مستنكرا وبعض الضيق يكسو وجهه
إنت بتكلم جد برضوه عملتها!!
أكد عليه وهو يرفع كذلك المغلف
ڼصب عينيه
ده ربنا اللي أراد.
تطلع عوض إلى ما في يده بحاجبين معقودين بينما استمر شقيقه في الاسترسال ليعلمه وهو عاقد العزم على تنفيذ ما طمح فيه بشدة بماض ليس ببعيد عنهما
ده أنا حتى كنت نسيت الحكاية دي من ساعة ما وصيت الزبون إياه إنه يشوفلي سكة لبرا وزي ما إنت عارف لا كان في حس ولا خبر منه بس طلع أصيل وحطني على أول الطريق.
بدا شقيقه الأكبر غير راض عن حماسه الظاهر للإقدام على هذه الخطوة الفارقة وسأله في عبوس
وإنت يعني لازما تسافر ما تفضك من الحكاية دي.
أصر على قراره هاتفا بعناد وأصابعه تزداد تشبثا على المغلف
لأ مش هيحصل دي فرصة أجرب حظي في حتة جديدة أجيب بيها قرش زيادة بدل العيشة الصعب اللي بقينا فيها.
سكت وحك جبينه للحظة ثم تشجع ليسأله باهتمام تخالطه الحيرة
طب ومراتك ناوي تعمل معاها إيه
امتقعت تعابيره وصار متجهما للغاية ففهم نواياه دون الحاجة للبوح بها ومع ذلك بادر بالقول عنه كأنما يسمعه ما يدور في رأسه
شكلك مش عامل حسابك عليها تبقى معاك صح كلامي
لوى ثغره ليتكلم في حدة طفيفة
هاخدها أبهدلها معايا أنا محتاج أظبط وضعي الأول وبعد كده أشوف هاخدها إزاي!
كان رده منطقيا مقنعا وليس محلا للنقاش بحث عن شيء آخر ليقوله لعل وعسى يثنيه عن رأيه لكنه لم يجد لذا ثبت عينيه عليه قائلا في استسلام
ربنا يصلح حالك.
شكره لدعمه الظاهري وهتف بتحمس أكبر
هروح أفرح أمي وأبشرها.
كان يعلم أنه لا يحق له التدخل في شأنه ومع ذلك نصحه في نوع من اللين 
وماله بس ماتنساش مراتك هي ليها حق عليك.
تحولت نظراته بعيدا عنه وقال بغير مبالاة وقد هم بالسير
ربنا يسهل!
شيعه عوض بنظرة آسفة قبل أن يردد في يقين كبير
شكلك هتظلمها معاك يا أخويا.
خيل إليها أنها أصبحت تملك كنوز الأرض الثمينة بعدما أطلعها ابنها على الأنباء السارة. ابتهجت أساريرها وأضاءت عيناها بكل معاني الفرحة والسرور ورغم أنها لا تعرف القراءة أو الكتابة إلا أنها ظلت تتحسس الأوراق بأطراف أصابعها وكأنها تستشعر نشوة الظفر بهذه الأختام الرسمية. ضاقت حدقتاها فجأة وراحت تشدد مجددا على ابنها وهي تعيد وضع الأوراق في المغلف الأصفر 
اسمع كلامي متقولش لحد إلا على آخر وقت إنت ممكن تتحسد فيها والعين وحشة.
هز رأسه في طاعة وسألها
طب وفردوس
أبدت تعبيرا ناقما ومشمئزا من سيرتها فحذرته بلهجة صارمة
دي بالذات قبلها بيومين ده كفاية خالتها وأرها!
لم يعارض ما تمليه عليه لكنه تكلم في صيغة متسائلة كما لو كان يستفهم منها
بس جوازي منها كده هأجله!!
ردت بامتعاض ونظرة ساخطة تطل من عينيها
مافيهاش حاجة لما تستنى كام شهر هي متسربعة على إيه
فرك مؤخرة عنقه في تحير معكوس على وجهه فمالت عليه والدته تخبره بهذه الابتسامة المتسعة
ركز إنت في باب الرزق اللي ربنا فتحهولك ده وسيبك من أي حاجة تانية.
قال صاغرا دون تفكير
حاضر يامه.
استحسنت قدرتها على استمالة رأسه ودفعه لتنفيذ ما ترغب فيه بلا مجهود وراحت تستحثه على السعي وراء أحلامه بتلهف يفوقه غير مبالية إطلاقا بمن دونه. 
العودة إلى أرض الواقع بعد لحظات من تذوق نعيم الجنة كان محبطا لها تمنت تهاني لو استمرت فاعليات هذا المؤتمر لأيام أكثر ورغم الأسلوب الجاد الذي بات عليه مهاب في التعامل إلا أنها لم تمانع البقاء بقربه لكن لكل شيء نهاية. أوصلها إلى مسكنها وودعها بابتسامة صغيرة فتركته وصعدت وهي منهكة من كم المجهود الذي بذلته طوال الساعات الماضية. 
كالعلقة التي تلتصق بظهر
فريستها لتمتص منها الډماء بشراهة لاحقتها ابتهال بإلحاح مغيظ منذ اللحظة التي ولجت بها إلى الداخل أخذت تفحصها من رأسها لأخمص قدميها بتدقيق عجيب لتتأمل هذا التغيير الملحوظ الذي صارت عليه سألتها بسماجة وهي تمسح بيدها على ثوبها البنفسجي الجديد والذي كانت ترتديه حين استقلت الطائرة مع مهاب عائدة إلى هنا
إيش إيش إيه الحاجات الحلوة دي 
تجاهلتها كالعادة وتركتها تثرثر فسمعتها تقول من خلفها وهي تضع حقيبتها أرضا بجوار فراشها
ده احنا اتغيرنا ولبسنا اللي على الحبل وزيادة.
حينئذ صاحت بها بصبر نافد على الأخير وبنبرة محتدة
ابتهال أنا راجعة من السفر تعبانة ممكن تسبيني أرتاح
لم تعبأ بصړاخها ولا بضيقها الظاهر بل أصرت على البقاء لصيقة بها فأخبرتها بلزاجة لا تطاق
ده أنا هطق من الأعدة لوحدي ليل نهار وربنا ده إنتي كنتي واخدة بحسي.
فما كان من تهاني إلا أن فقدت هدوئها واندفعت تجاهها في عصبية لتقوم بدفعها دفعا إلى خارج الغرفة وهي تهتف بحمئة
أنا مش ناقصة صداع.
ما إن أخرجتها حتى صفقت الباب في وجهها ووصدته بالمفتاح لتضمن عدم اقتحامها للغرفة مجددا ومع ذلك سمعتها تصيح من الخارج ببرود مستثير للأعصاب
براحتك أنا هعذرك بس عشانك تعبانة ولسه راجعة بس اعملي حسابك مش هسيبك إلا لما أعرف كل حاجة بتفاصيل التفاصيل.
نفخت تهاني في سأم شديد ورددت وهي تسير عائدة إلى فراشها
هو في كده بني آدمة رهيبة!!!!
كان إرهاق السفر متمكنا من بدنها فلم تستغرق وقتا في الانخراط في سبات عميق تسلل فيها شخصه إلى أحلامها الطامعة بحياة هانئة مليئة بالراحة والثراء الثراء الفاحش!
أطلقت تنهيدة ارتياح كبيرة عندما نجحت في الإفلات من قبضة هذه السقيمة المتطفلة قبل أن تعترض طريقها نهارا وتحاصرها بأسئلتها التحقيقية المزعجة. انطلقت إلى المشفى بسيارة أرسلها إليها مهاب لتقلها رافضة حضور أي من محاضرات اليوم دون أن تلقاه أولا وكأن رؤيته قد باتت إدمانا لها.
بلغت سعادتها عنان السماء عندما وجدته في انتظارها بمكتبها ألقت عليه التحية وأبدت سعادة غير عادية لمقابلته لكنه تعامل معها بجمود غريب واستطرد متحدثا بشيء من الجدية الباعثة على القلق والريبة
أنا مش هطول كتير...
سألته بتوجس وقد اختفت النضارة من على بشرتها
خير في حاجة
أبقى عينيه عليها ثابتة وهو يجيبها بهدوء
أنا كنت جاي أبلغك إني هرجع مصر كام يوم.
انقبض صدرها وتوتر قلبها فسألته باضطراب متصاعد
ليه في حاجة حصلت
صمت للحظة ونكس رأسه في حزن قبل أن يجاوبها
والدي تعبان شوية ولازم أسافر أطمن عليه بنفسي.
في التو قالت كنوع من الدعم المعنوي له
ألف سلامة إن شاءالله ماتكونش حاجة خطېرة.
عقب بغموض مقتضب
هيبان.
حاولت استطالة الحديث معه بعدما رأت كيف استبد به الهم
متقلقش يا دكتور مهاب ومن فضلك طمني أول بأول.
هز رأسه بإيماءة صغيرة وأردف مودعا إياها دون قول المزيد
أكيد أشوفك على خير.
أحست بغصة مريرة تعلق في حلقها فراحت تردد بصعوبة وهذا الشعور الخانق يزداد ضغطا على صدرها
مع السلامة.
انقلبت سحنتها وتعكر مزاجها لرحيله وكأن قناع الثبات التي كانت تختفي خلفه قد سقط عن وجهها شعرت مع ذهابه بفراغ كبير يحتلها بوجود شيء موحش يجثم على روحها حتى أنها استنكرت ما أصابها لمجرد التفكير في تأثير غيابه عليها. لم تقو ساقاها على حملها فارتعشت وهي تسير عائدة إلى مكتبها لترتمي على المقعد وهي شاحبة الملامح متسائلة في صوت يعبر عن تكدرها
أنا إيه اللي حسا بيه ده!! 
بذلت جهدا كبيرا لتركز في استذكار ما فاتها من محاضرات ومع هذا عجزت عن قراءة سطر واحد من الورقة المطروحة أمام عينيها
لساعات كان بالها مشغولا تفكيرها مشوشا فاكتفت بالنظر إلى ما لا تراه بين السطور لتختبئ خلف ستار الصمت والهدوء الزائفين لعل وعسى عقلها يكف عن السؤال عنه فقد مر ما يقرب من أسبوع وهو غائب عنها لا تعرف عنه أي شيء حاولت التوصل إلى أي معلومة تفيدها بشأن مرض والده لكنها لم تصل لشيء كل الطرق مسدودة.
 

 

15  16  17 

انت في الصفحة 16 من 80 صفحات